حقيقة.!

عندما أقرأ كتاباً للمرة الأولى أشعر أني قد قسبت صديقاً جديداً، وعندما أقرأه للمرة الثانية أشعر أني ألتقي صديقاً قديماً.

البطــل في وقفته الأخيرة.pdf

سفر الكلمات البعيد اليوم الأول لي في هذه المدينة. نافذة غرفتي معبأة بالأزرق، زرقة بحرية غامقة منبسطة تجعدها خلجات متتابعة، تبهت في بقع وخطوط متعرجة تبتعد وتقترب من الشاطئ، تصافح زرقة سماوية وخطتها نتف بياض على مرامي الأفق. عدت إلى فندق الأوراسي بعد أن راجعت وزارة التعليم، دخلت عدة مكاتب وملأت استمارات ببيانات كتبت نفسها، قالوا لي: لم يتم تحديد مكان عملك إلى الآن، عليك أن تراجعنا غداً. أخرجت الورقة من جيبي، كنت قد أخذتها معي لأتصل أو لأتعرف على العنوان المدون عليها ونسيت، سطران بالفرنسية، اسم ورقم هاتف، لماذا لم يكتبها بالعربية...!؟ لقد أخبرته أني مدرس لغة عربية وليس فرنسية، لم يكترث، ربما هناك أمر لا يريدني أن أطلع عليه لكني أستطيع أن أطلب من أحد ما ترجمتها، الأمر ليس هكذا، رفعت سماعة الهاتف وطلبت الرقم، رنَّ الهاتف إلى أن فصل ولم يرد أحد، أعدت الورقة إلى قلب ديوان الشعر حيث كانت. استلقيت على السرير، أغمضت عيني، ما زال رأسي مشوَّشاً بلغط الشارع، أبواق السيارات، هدير وغناء، لا أفهم لهجة أهل هذه المدينة، أركّز وأحاول، أستوعب كلمات قليلة فقط، السكون سيدة الحركات هنا، هي الأقوى، الفتحة أفق والكسرة قسر والضمة كمون ومخاتلة.. لكن السكون بغمرتها الخفيفة وتدويرها كأنها عودة على بدء، هي مفتاح ورتاج منها يبدأ الكلام وبها ينتهي، وعلي أن أحرَّك ما سكن لأفهم ما يقال، ليس هذا فقط بل يجب علي فصل الكلمات عن بعضها، وعن كلمات أخرى بالفرنسية، فالكلام يجري على ألسنة هذه المدينة بسرعة تجعلني قاصراً عن إدراكه. مدينة حائرة بين طابعين، غربي هجين وشرقي عتيق، يبدو ذلك من لباس أهلها وأبنيتها تستطيع هنا أن تسمع رطانة فرنسية وعربية لاهثة تسوقها السكون ويلجمها النزق. تعاودني كلمات ذلك الرجل الوادع الذي رأيته يجلس على كنبة منخفضة في مكتب الموفدين بوزارة التربية في دمشق ستحب ذلك البلد وستحب العاصمة بالتحديد لن تخلص من وحشة الأماكن الجديدة لكنها ستخف وفي النهاية ستألفها، الأمر يحتاج إلى زمن، صمت للحظات شردت عيناه من النافذة وقال بهدوء من يُقِّر بأمر ما: ستحبها، والحب الراسخ لا يداخل النفس بيسر،أنت الآن على سفر لكن عليك أن تعرف أن هناك سفر أشق وأبعد، سفر لا علاقة له بالمسافات، ستكتشف هذا فيما بعد. لم يحد هذا القول من إحساسي بالوحشة (هناك سفر آخر، قد تسافر في وجه وربما في قصيدة أو في لوحة أو موسيقى)، لاأفهم هذا الكلام الآن، السفر هو السفر، مسافة واجتياز. أفهم ما أراه وما وصفه لي وهو يبتسم بلطف: الجزائر بلد جميل. تشبه شاباً يافعاً بهي الطلعة طيب وقوي لكنه يحتاج للتروي، يبدو هذا الكلام صحيحاً خاصة من لهجة أهلها، تستطيع أن تنزل في فندق الأوراسي فهو يتوضع في أعالي المدينة مشرفاً على أحيائها وعلى البحر تتدرج منه سطوح حي القصبة هابطةً إلى الشاطئ، يهيمن على مداميك من الأبنية، بيوت قديمة وحديثة، قصور، فنادق وجوامع، تتوزع كلها بين درجات البياض. تناول قلم وورقة، كتب سطرين وناولني إياها وهو يقول: اتصل بهذا الرقم، سيسهل أمورك إذا واجهتك مشكلة. تناولت الورقة، سألت الرجل، من حضرتك، من أقول له؟ - سليمان... سليمان العيسى. - - - - .. انتظر، انتظر قليلاً..... أتحب الشعر ..؟ لم أجب، وهو لم ينتظر جواباً، أخرج نسختين لكتاب من محفظته، كتب على إحداها باللغة الفرنسية أيضاً، ثم سألني عن اسمي، وكتب على النسخة الثانية إهداءًا لي ( الأستاذ شكري: ليس السفر تبديل أمكنة، سفراً سعيداً ). كانت أول مرة أرى الشاعر سليمان العيسى، شخص دمث لا تفارق ابتسامته الكيّسة وجهه، قرأت الكثير من شعره، وهاأنذا أتمعن في وجهه. مأخوذاً به كمن يقرأ قصيدة من قصائده. شكرته وغادرت الوزارة، التفت إلى الوراء، كأني أرى واجهة المبنى للمرة الأولى، واجهة مستديرة بلون خامل، لون رمل رطب.تتصدر ساحة الشهبندر. لانت حدة الحر، الجو أضحى أرق وألطف، أحب دمشق في فصل الخريف، لكني كنت سأغادرها بعد أيام. يومان في الجزائر. كأني وصلت للتو، ما زالت دمشق بكل حراكها وهدوئها تملأ كياني، جلست قرب النافذة، فتحت حقيبتي أخرجت ديوان الشعر من بين بضعة كتب جلبتها معي، برزت من صفحاته الورقة، حاولت القراءة ولم استطع، وضعت الديوان على الطاولة ووقفت أرنو إلى البحر من النافذة الواسعة، ثم إلى الشوارع والأزقة الضيقة المتشعبة في المدينة القديمة تتقطع في انعطافات، وتنغلق بجدران، تتلاقى بأخرى. يشغلها بشر بألبسة مختلفة، سحنات متشابهة، يمضون أو يجلسون أمام متاجرهم، يقضون أعمالهم، يتكلمون ويدبون بسرعة، الجزائريون ذوو حيوّية وحميّة، من هنا. من حي القصبة انطلقت أولى شرارات الثورة الجزائرية، بعد الأوراس. كان ذلك في عام أربعةٍ وخمسين وتسعمئةٍ وألف. في طريقي إلى الفندق لم أستطع استيضاح المدينة، لكني لاحظت أنها مدينة يحكمها الضيق، شوارع ضيقة، أبنية متقاربة وودكاكين متراصة. استلقيت على السرير غفوت للحظات تراءى لي وجه سليمان يبتسم ويقول ( ليس السفر تبديل أمكنة ) ليس السفر ..أفقت على صوت قوي نفذ من الخارج، نهضت، اتجهت إلى الهاتف طلبت الرقم المكتوب على الورقة، رن الهاتف في الطرف الآخر رنات متتالية، لم يرد أحد. أخذت الورقة بيدي ونزلت إلى بهو الاستقبال، اقتربت من الموظف وضعتها أمامه وسألته إن كان العنوان بعيداً، أشار بيده إشارات متداخلة مترافقة مع دفق كلام لم أفهم منه شيئاً فشكرته وتأكدت أنه علي أن أبقى مكاني . جلست، أرقب حركة النزلاء، أفارقة وغربيون، عرب بأزياء مختلفة، الردهة طولية تشغلها أرائك خشبية مزخرفة، الجدران مزينة بصور وتحف شرقية، في صدرها عُلقّت نسخة عن لوحة رأيتها سابقاً ليوجين دولا كروا، طلبت الرقم ثانية دون جواب، صعدت إلى غرفتي، بدأت العتمة تنش في الفراغ بدت فوق البحر أكثر قتامة وهي تتداخل مع زرقته، خرقتها أضواء تلألأت متطاولة بخطوط مرتجفة تنبعث من سفن متوقفة وتتناهى إلى التلاشي. قبيل الفجر نمت نوماً خفيفاً، ليس نوماً كأني في حلم أو معلق على ذلك الحد الفاصل بين اليقظة والنوم، حسبت أني ما زلت في دمشق، لحظة نهوضي ذكَّرتني أصوات الباعة واللهجة الجديدة أني هنا، من النافذة رأيت البحر انبساطاً أزرق صافياً وهادئاً. أخذت أوراقي وغادرت الفندق قاصداً وزارة التعليم، أخبروني أني عينت في مدرسة شمالي العاصمة، بدأ أحد الموظفين يشرح لي كيف سأصل إلى هناك، طلبت منه أن يسجل ذلك على ورقة، فابتسم وبانت أسنانه الطويلة. ناولني الورقة سألته وأنا أشير إلى الهاتف، هل أستطيع إجراء اتصال هاتفي ..؟ دفع الهاتف نحوي وأدرت الرقم، كدت أضع السماعة بعد رنات عديدة، لكني سمعت صوتاً أنثوياً يرد بلغة فرنسية، لم أفهم شيئاً، اعتذرت وأغلقت الخط، خرجت من المبنى اشتريت جريدة وسرت إلى البحر، جلست على أحد مقاعد الرصيف، لم أقرأ من الجريدة حرفاً واحداً، فقط كنت أتأمل البحر، اعتدت أن أجلس على شواطئه في الطرف الآخر، كما أجلس الآن صامتًا، لا أجد داعياً للكلام، حتى مع وجود أصدقاء، أعرف هذا البحر من طرطوس واللاذقية، من بيروت وطرابلس، لو أستطيع الامتداد مثله إلى هناك الآن، حينها سيصدق ما قاله سليمان (ليس السفر تبديل أمكنة). خمسة وعشرون يوماً في هذه المدينة. انقشعت وحشة الأمكنة الجديدة، بدأت أعتاد لهجة أهل المدينة بعد أن استأجرت شقة صغيرة وأصبحت على اتصال دائم بالناس. ساهم بذلك انخراطي بالعمل، وتلك العلاقة التي بدأت تتوطد مع تلاميذي، علاقة لها طابع واحد في كل مكان، غير أن هناك أشياء لم آلفها، هجوع الشمس خلف الجبال، تربكني جهة الغرب، هي البحر في بلدي، هنا في هذه المدينة، الشمس تسري موازية للبحر لتحتجب خلف الجبال، ولا تتقاطع مع البحر، أحياناً عندما أريد تحديد جهة الغرب أشير بشكل عفوي إلى البحر، يصحح لي تلاميذي ويبتسمون. في محفظتي الصغيرة حملت الديوان الذي أهداني إياه سليمان، لم أكمل قراءته إلى الآن، ما زلت أقرأ من وقت لآخر مقطعاً أو قصيدةً، قرأت على تلاميذي قصيدتين منه، الورقة التي كتبها لي مازالت تتنقل بين صفحاته، في غرفة المعلمين أردت أن أقرأ على زملائي قصيدة وجدتها جميلة، سقطت الورقة من الديوان، التقطتها، طلبت من أحد المعلمين الاتصال بالرقم المكتوب عليها، دق الرقم ثم بدأ يتحدث بالفرنسية، أعطاني السماعة قلت: أنا لا أتكلم الفرنسية. قال : ماذا تريدني أن أقول للرجل.؟ - أخبره أني أحمل سلاماً ورسالة له. وضع يده على السماعة وسألني: - ممن ..؟ - من سليمان العيسى . - يسأل إن كنت تستطيع مقابلته غداً. - نعم . - يدعوك إلى العشاء غداً في الثامنة مساءً في مطعم الريفيرا. ثلاثون يوماً أشار النادل إلى طاولة في أقصى الصالة، جلس عليها رجلان، مضيت نحوهما، نهضا تبادلنا التحية وتعارفنا. - مالك حداد قال أحدهم بلكنة أجنبية. - الشاذلي، تابع الآخر. عرفتهم بنفسي، صب الشاذلي ثلاث كؤوس وهو يحييّني، ابتسم مالك بلطف ورحب بعربية ثقيلة، قال أربع كلمات عربية مكسرة (أهلاً وسهلاً بيك بالجزاير). أعطيته الورقة، فضها ثم قال:رسالة للأستاذ مالك وناوله إياها. ركز نظارته ثم قرأ السطرين المكتوبين باللغة الفرنسية بتأنٍ، وضع الورقة جانباً ارتشف من الكأس، نزع نظارته من جديد، ابتسم برقة، ثم بدأ يردد كلمات بالفرنسية مفعمة بالإحساس، لم أفهم ما يقول ولا داعي لذلك كي أحس أنه شعر. وجه مالك وهو يلقي الشعر كوجه سليمان، فيهما تعبير آسر، وحضور قوي، قال للشاذلي عدة كلمات، التفت إلي وقال: - الأستاذ مالك يعتذر منك فهو لا يعرف العربية وهو سعيد جداً بالرسالة. يسألك أين رأيت الأستاذ سليمان ؟ - في دمشق. أخرجت الديوان من محفظتي ناولته للأستاذ مالك. وقلت: - أوصاني الأستاذ سليمان أن أوصله لك. قرأ ما كتب عليه، ابتسم وبدا تصفحّه، قربّه من عينيه وكأنه يريد ضمّه ثم وضعه أمامه وعاد يلقي شعراً بالفرنسية، بدأت أتمعَّن بوجهه وترددت في سمعي كلمات الأستاذ سليمان، قد تسافر بوجه أو قصيدة .. أو... توّقف عن القراءة وتدّفقت ذكرياته في حديث عن سورية والجزائر، الكتب والأدباء، وعيناه تبرقان فرحاً، الشاذلي كان يترجم بسرعة محاولاً ألا يضيع حرفاً واحداً، منفعلاً بالكلمات كمن ينطقها. أعطى الديوان للشـاذلي وطلب منه أن يقـرأ. قرأ عدة أبيات، أشار له مالك أن يتوقف ثم طلب مني أن أكمل، تابعت القراءة، لم يكن يفهم الكلمات لكنه كان كمن يعيد كتابتها. كنت أقرأ وأسمع صوتي كأنه لشخص آخر. ليس المكان مكاناً الآن ولا الزمان، لا شيء يبطل غربتهما سوى الفن والأدب وذلك الشعور بالسمو الذي يحضّه في داخلك أشخاص تحس وكأنك تعـرفهم لا تدري متى رأيتهم وكيف، كنت أعرف مالك والشاذلي وسليمان منذ زمن غابر لا يمكن تحديده، لا داعي لأراهم كي أعرفهم فالمعرفة تسبق الرؤية أحياناً وقد تقصر عنها. أشار مالك أن أتوّقف ثم طلب مني الديوان، سادت فترة صمت قصيرة، جرع من كأسه بسرعة ثم فتح الديوان على القصيدة الأولى، حاول قراءة عنوانها، ساعده الشاذلي، هجّأه بشكل متقطع رفع الكأس، أدناها من فمه، لم يرتشف، أعاده إلى الطاولة ورفع الديوان باليد الأخرى حاول القراءة من جديد، لفظ أحرفاً منفصلة، تلعثم لسانه وتوتر، امتقع وجهه، أدنى الديوان أكثر، قلص عينيه مركزاً، وضعه برفق ثمً تناول الكأس وجرع ما فيه دفعة واحدة بقي في فمه للحظات تشّنج وجهه ثم كز بأسنانه وعض علية بحنق، احتقنت عيناه ومن بين أسنانه خرج صوت طقطقة وتهشم، ما لبثت أن نزفت قطرات قانية من شفتيه ولسانه، للحظة بقينا صامتين مذهولين ثم هببنا واقفين تناول الشاذلي منديلاً وأمسك مالك من يده، لكنه بقي جالساً وأشار له أن يجلس. اكتمل المعنى الآن، لا السكون ولا الحركات ولا الحروف، لا كلمة في لغات العالم تناسب هذه اللحظة نهض مالك بهدوء ودخل إلى المغاسل، طلبنا من النادل كأساً جديدة، عاد وبيده منديلاً صغيراً يمسح به شفتيه، جلس وقال لي بهدوء مشيراً إلى الديوان: اقرأ ...اقرأ . بدأت أقرأ ... كلمات سليمان، وجه مالك... نهض الشاذلي ثانية مصراً أن يذهب لطبيب، لكن مالك رفض وطلب منه أن يجلس ثم أشار لي أن أتابع. عاودت القراءة، كل كلمة أقرؤها... تقابلها قطرة دم تنزف من شفتيه، تكاثفت القطرات في خطوط قانية تحدّرت على ذقنه، توقّفت، نهضنا كان عليه أن يراجع طبيباً، مشى ببطء وانكسار، ثمة وحشة قديمة تكمد وجهه،إنه هنا في بلده وبين أهله، لكنه أبداً في غربة وعلى سفر دائم. لا أدري منذ متى وأنا في هذه المدينة، ربما منذ زمن، زمن بعيد لا يعد بالأيام ولا بالشهور والسنين. * * *

البطــل في وقفته الأخيرة.pdf

تفاصيل كتاب البطــل في وقفته الأخيرة.pdf

التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 30

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً: